فصل: تفسير الآية رقم (194):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (194):

{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرامُ} قد تقدم اشتقاق الشهر. وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الآية. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام؟ قال: «عم». فأرادوا قتاله، فنزلت الآية. المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالآية مدافعتهم، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام. والحرمة: ما منعت من أنتهاكه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. فـ {الْحُرُماتُ قِصاصٌ} على هذا متصل بما قبله ومتعلق به.
وقيل: هو مقطوع منه. وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شي، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والأموال يتناولها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} [النساء: 58]. وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا.
قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» واخذ الحق من الظالم نصر له.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف». فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} قاطع في موضع الخلاف.
الثالثة: واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان، أصحهما الأخذ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك. وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.
الرابعة: وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ماله عليه.
وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس، وهو القياس، والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لأن قول القائل: فقالت له العينان سمعا وطاعة وكذلك: امتلأ الحوض وقال قطني وكذلك:
شكا إلى جملي طول السرى

ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال الآخر:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإني مقوم ** ومن رام تعويجي فإني معوج

يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج.
السادسة: واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. قالوا: وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال: «إناء بإناء وطعام بطعام» خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: «غارت أمكم». زاد ابن المثنى: «كلوا» فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: «كلوا» وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري- قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة- عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ قال: «إناء مثل إناء وطعام مثل طعام». قال مالك وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام: «طعام بطعام».
السابعة: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت.
وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يعذب بالنار، إلا الله». والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الآية.
الثامنة: وأما القود بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم.
وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي.
وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب، وقاله عبد الملك. قال ابن العربي: والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف. واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقا عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلة الرعاء. وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والثعلبي والنخعي.
واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا قود إلا بحديدة»، وبالنهي عن المثلة، وقوله: «لا يعذب بالنار إلا رب النار». والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترض رأسه بالحجارة.
وفي رواية: فقتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}. وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك حديث أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة. وقوله: «لا يعذب بالنار إلا رب النار» صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدا طرح في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألفاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفا بذلك- قد خنق غير واحد- فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.
قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الامة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس عنه مناص.
التاسعة: واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت.
وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر.
قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل.
وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الأخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه». رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا.
العاشرة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى} الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته». أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه.
وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36].
وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يحل لاحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان.

.تفسير الآية رقم (195):

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: روى البخاري عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة.
وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد عليه ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم. قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شي. وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الاعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بما ذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل. ومعنى ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا. وقول رابع- قيل للبراء ابن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقال عبيدة السلماني.
وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. {سَبِيلِ اللَّهِ} هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في: {بِأَيْدِيكُمْ} زائدة، التقدير تلقوا أيديكم.
ونظيره: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى} [العلق: 14].
وقال المبرد: {بِأَيْدِيكُمْ} أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {بِما قَدَّمَتْ يَداكَ} [الحج: 10].
وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. والتهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم.
وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].
وقال الطبري: قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.
الثانية: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.
وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.
قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: «فلك الجنة». فانغمس في العدو حتى قتل.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: «من يردهم عنا وله الجنة» أو: «هو رفيقي في الجنة» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: «من يردهم عنا وله الجنة» أو: «هو رفيقي في الجنة». فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أنصفنا أصحابنا». هكذا الرواية: «أنصفنا» بسكون الفاء «أصحابنا» بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم.
وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجريه المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولان فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله». وسيأتي القول في هذا في آل عمران إن شاء تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في أخلافه عليكم.
وقيل: أحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.